عقيدة الصدمة
في ذك اليوم (8 ماي 1991)، خرجت مذيعة الأخبار في النشرة الرئيسية للأنباء تسرد علينا برقية مقتضبة جاء فيها أنه في ذلك اليوم الربيعي، أقدمت مجموعة معزولة من طلاب المركب الجامعي على مهاجمة أعوان الأمن الجامعي مما اضطرهم إلى استخدام الرصاص للدفاع عن أنفسهم و قد نتج عن ذلك وفاة طالبين اثنين و جرح طلبة آخرين وعدد من الأعوان
كنت أستعرض ما جرى في ذلك اليوم المشهود الذي كان مليئا بالأحداث العاصفة، تراءت لي صورة أمي و هي تبكي من الحيرة و قلة الحيلة فلم تكن هناك في ذلك الوقت هواتف جوالة و فضائيات ولا مواقع اجتماعية على النت يمكن أن تشفي غليل الأمهات الحائرات .
أسرعت إلى الخارج أبحثعن هاتف عمومي، كلمتها، كانت تبكي و تقول أنها ظنت أن الطالبين الذين قتلا هما ابنيها (أنا و أخي).
أظن أنه وقتها كانت كل أم تقول أن ابنها قتل في ذلك اليوم . كان هناك عدد كبير من الطلبة يشاركون في الاحتجاجات في ذلك اليوم، أطلق البوليس العنان لرشاشاته ..لا شك أن عدد القتلى كبير ..أكبر بكثير من اثنين..إنهم يكذبون كالعادة ..كنت شاهدا على ما حدث.. لا،لا، إنهم لا يكذبون.. لقد استشهد أحمد و عدنان .. و جرح سالم و سامي و بوبكر و مراد .. و آ خرين ..لا،لا، إنهم لا يكذبون..كانوا يعلنون الأخبار بتبجح و شماتة .. لو كان عدد القتلى أكبر لكانوا قالوا ذلك ..إنهم يريدون إخافة الجماهير ..يريدون صدمتهم..
كلما كان عدد القتلى كبيرا ..تكون الصدمة أكبر .. كانت تلك عقيدتهم .. عقيدة الصدمة ..
كان مهندس تلك العقيدة (زين العابدين بن علي) يولي وجهه شطر الغرب لينتصح كلما أحس بإرهاصات انتفاضة شعبية أوأزمة سياسية أو اقتصادية و لكنه في هذه المرة بالذات أمر بتوجيه طائرته الرئاسية بعيدا نحو الشرق الأقصى .. نحو بلاد السور العظيم ..لم يذهب بن علي للسياحة و لا لطلب العلم ..كان عليه أن يعالج بسرعة تفجر الاحتجاجات في المجتمع التونسي ..لقد أجهض ثوره الشعب في عن طريق إنقلاب ٧ نوفمبر و أطاح بالدكتاتور العجوز بورقيبة .. الثورة على الأبواب من جديد ..بعد تزويره للإنتخابات البرلمانية التي كان الإسلاميون .. الخصم العنيد.. على وشك تحقيق فوز كبيرفيها ..قرر أن يستأصلهم و يجفف منابعهم ..الغضب الشعبي يتصاعد ..الاحتجاجات الطلابية أصبحت تماما تحت سيطرة هؤلاء المناضلين الصغار..المتشبعين بفلسفة الثوار في طهران ..و عزيمة أسود هيرات في أفغانستان
الخطر على الأبواب .. إن نظامه البوليسي قد لا يحتمل غضب الآلاف من هؤلاء الشباب الثائرين ..إنهم طليعة الشعب ..يجب التدخل العاجل ..هل يمكن لعقيدة الصدمة أن تسكتهم ؟
قبل هذا الربيع ..كان هناك ربيع آخر في بيكين ..ربيع مرعب ..أرعب الأمواج البشرية التي خرجت من جامعات بيكين تطالب بالحرية ..هل ترتعب الأمواج ..إنها عقيدة الصدمة ..أراد بن علي يرى ثمار تلك العقيدة في بيكين ..النتائج مذهلة ..شعب السور العظيم انكفأ ..البركان سكن ..القرار قد اتخذ ..أرسلوا التعليمات إلى القوات التي تحاصر المركب الجامعي ..لا ضرورة لحمل القنابل المسيلة للدموع ..بل احملوا القنابل المسيلة للدماء..
الدموع لن تصدم هؤلاء الشباب الثائرين ..الدماء وحدها كفيلة بإسكاتهم ..
انكفأ الصينيون على أنفسهم خلال عقدين من الزمن ..صنعوا معجزة اقتصادية أبهرت العالم ..
انكفأ التونسيون على أنفسهم خلال عقدين من الزمن..صنعوا ثورة شعبية أبهرت العالم ..
شكري مناصري- مدرس جامعي --- شاهد عيان على صدمة 8 ماي 1991.